الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ومعنى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السماء } [الحج: 15] {فَلْيَمْدُدْ } [الحج: 15]: من مدَّ الشيء يعني: أطاله بعد أنْ كان مجتمعًا، ومنه قوله تعالى: {والأرض مَدَدْنَاهَا } [الحجر: 19] فكلما تسير تجد أرضًا ممتدة ليس لها نهاية حافَّة.والسبب: الحبل، يُخرجون به الماء من البئر، لَكِن هل يستطيع أحد أنْ يربط حبلًا في السماء؟ إذن: علَّق المسألة على محال، وكأنه يقول لهم: حتى إنْ أردتم شَنْق أنفسكم فلن تستطيعوا، وسوف تظلُّون هكذا بغيظكم.أو: يكون المعنى: {إِلَى السماء } [الحج: 15] يعني: سماء البيت وسقفه، كمَنْ يشنق نفسه في سَقْف البيت.ويمكن أن نفهم السبب على أنه أيّ شيء يُوصِّلك إلى السماء، وأيّ وسيلة للصعود، فيكون المعنى: خذوا أيّ طريقة تُوصِّلكم إلى السماء لتمنعوا عن محمد أسباب النصر؛ لأن نَصْر محمد يأتي من السماء فامنعوه، وهذه أيضًا لا يقدرون عليها، وسيظل غيظهم في قلوبهم.وتلحظ أننا نتكلم عن محمد صلى الله عليه وسلم، مع أن الآية لم تذكر شيئًا عنه، وكل ما جاء في الآية ضمير الغائب المفرد في قوله تعالى: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله } [الحج: 15] والحديث مُوجَّه للكفار المغتاظين من بوادر النصر لركْب الإيمان، فقوله: {يَنصُرَهُ } [الحج: 15] ينصر مَنْ؟ لابد أنه محمد، لماذا؟قالوا: لأن الأسماء حينما تُطلَق تدلُّ على مَعَانٍ، فعندما تقول سماء نفهم المراد، وعندما تقول قلب نفهم، نور نعرف المراد. والأسماء إما اسم ظاهر مثل: محمد وعلي وعمر وأرض وسماء، والأسماء إما اسم ظاهر مثل: أنا، أنت، هو، هم.والضمير مُبْهم لا يُعيِّنه إلا التكلُّم، فأنت تقول: أنا وكذلك غيرك يقول أنا أو نحن، فالذي يُعيِّن الضمير المتكلّم به حال الخطاب، فعُمدْة الفهم في الضمائر ذات المتكلم وذات المخاطب. فإن لم يكن متكلّمًا ولا مخاطبًا فهو غائب، فمن أين تأتي بقرينة التعريف للغائب؟حين تقول: هو، هي، هم. مَن المراد بهذه الضمائر؟ كيف تُعيِّنها؟ إنْ عيَّنْتَ المتكلم بكلامه، والمخاطب بمخاطبته، كيف تُعيِّن الغائب؟ قالوا: لابد أنْ يسبقه شيء يدل عليه، كأن تقول: جاءني رجل فأكرمتُه، أكرمت مَنْ؟ أكرمت الرجل الذي تحدثتُ عنه، جاءتني امرأة فأكرمتُها، جاء قوم فلان فأكرمتهم. إذن: فمرجع الضمير هو الذي يدلُّ عليه.لَكِن لم يسبق ذِكْر لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الضمير ليُعيِّنه ويدلُّ عليه، نعم لم يسبق ذِكْر لرسول الله، لَكِن تأمَّل المعنى: الكلام هنا عن النصر بين فريق الإيمان وعلى رأسه محمد صلى الله عليه وسلم، وفريق الكفر وعلى رأسه هؤلاء المعاندون، فالمقام مُتعيّن أنه لا يعود الضمير إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.ومثال ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ } [القدر: 1].فالضمير هنا مُتعيِّن، ولا ينصرف إلا إلى القرآن، ولا يتعين الضمير إلا إذا كان الخاطر لا ينصرف إلى غيره في مقامه.اقرأ: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] تلحظ أن الضمير سابق على الاسم الظاهر، فالمرجع متأخر، ومع ذلك لا ينصرف الضمير إلا إلى الله، فإذا قِيلَ: هو هكذا على انفراد لا يمكن أن ينصرف إلا لله عز وجل.كذلك في قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ} [النحل: 61]. على ظَهْر أيِّ شيء؟ الذِّهْن لا ينصرف في هذا المقام إلا إلى الأرض.وقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: 15] الاستفهام هنا مِمَّنْ يعلم، فهو استفهام للتقرير، ليِقُروا هم بأنفسهم أن غَيْظهم سيظلُّ كما هو، لا يشفيه شيء، وأنهم سيموتون بغيظهم، كما قال تعالى: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } [آل عمران: 119].ثم يقول الحق سبحانه: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ }.قوله: {أَنزَلْنَاهُ } [الحج: 16] أي: القران؛ لأن الضمير هنا كما ذكرنا مرجعه مُتعِّين، وما دام مرجعه مُتعينًا فلا يحتاج لذكر سابق. والإنزال يحمل معنى العلو، فإنْ رأيتَ في هذا التشريع الذي جاءك في القرآن ما يشقُّ عليك أو يحولُ بينك وبين ما تشتهيه نفسك، فاعلم أنه من أَعْلى منك، من الله، وليس من مُسَاوٍ لك، يمكن أنْ تستدرك عليه أو تناقشه: لماذا هذا الأمر؟ ولماذا هذا النهي؟ فطالما أن الأمر يأتيك من الله فلابد أن تسمع وتطيع ولا تناقش.ولنا أُسْوة في هذا التسليم بسيدنا أبي بكر لما قالوا له: إن صاحبك يقول: إنه أُسْرِي به الليلة من مكة إلى بيت المقدس، ثم عُرِج به إلى السماء، فما كان من الصِّديِّق إلا أنْ قال: إنْ كان قال فقد صدق، هكذا دون مناقشة، فالأمر من أعلى، من الله.وقلنا: إنك لو عُدْتَ مريضًا فوجدتَ بجواره كثيرًا من الأدوية فسألته: لماذا كل هذا الدواء؟ قال: لقد وصفه الطبيب، فأخذت تعترض على هذا الدواء، وتذكر من تفاعلاته وأضراره وعناصره، وأقحمت نفسك في مسألة لا دَخْلَ لك بها.هذا قياس مع الفارق ومع الاعتراف بأخطاء الأطباء في وصف الدواء، لَكِن لتوضيح المسألة ولله المثل الأعلى، وصدق القائل:
إذن: حجة كل أمر ليس أن نعلم حكمته، إنما يكفي أنْ نعلم الآمر به.ومعنى {آيَاتٍ } [الحج: 16] أي: عجائب {بَيِّنَاتٍ } [الحج: 16] واضحات. وسبق أنْ ذكرنا أنْ كلمة الآيات تُطلَق على معَانٍ ثلاثة: الآيات الكونية التي تُثبِت قدرة الله، وبها يستقر الإيمان في النفوس، ومنها الليل والنهار والشمس والقمر، والآيات بمعنى المعجزات المصاحبة للرسل لإثبات صِدْق بلاغهم عن الله، والآيات التي يتكوَّن منها القران، وتُسمَّى حاملة الأحكام.فالمعنى هنا {وكذلك أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } [الحج: 16] تحمل كلمة الآيات كُلَّ هذه المعاني، فآيات القران فيها الآيات الكونية، وفيها المعجزة، وهي ذاتها آيات الأحكام.ثم يقول سبحانه: {وَأَنَّ الله يَهْدِي مَن يُرِيدُ } [الحج: 16] وهذه من المسائل التي وقف الناس حولها طويلًا: {يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ } [النحل: 93] وأمثالها تمسَّك بها مَنْ ليس لهم حَظٌّ من الهداية، يقولون: لم يُرِدِ الله لنا الهداية، فماذا نفعل؟ وما ذنبنا؟وهذه وقفة عقلية خاطئة؛ لأن الوَقْفة العقلية تقتضي أنْ تذكر الشيء ومقابله، أما هؤلاء فقد نبَّهوا العقل للتناقض في واحدة وتركوا الأخرى، فهي- إذن- وَقْفة تبريرية، فالضال الذي يقول: لقد كتب الله على الضلال، فما ذنبي؟ لماذا لم يَقُلْ: الطائع الذي كتب الله له الهداية، لماذا يثيبه؟!فلماذا تركتم الخير وناقشتم في الشر؟والمتأمل في الآيات التي تتحدث عن مشيئة الله في الإضلال والهداية يجد أنه سبحانه قد بيِّن مَنْ شاء أنْ يُضلّه، وبين مَنْ شاء أنْ يهديه، اقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [المائدة: 67] إذن: كُفْره سابق لعدم هدايته وقوله: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [المنافقون: 6] وقوله: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [القصص: 50].إنما يهدي مَنْ آمن به، أما هؤلاء الذين اختاروا الكفر واطمأنوا إليه وركنوا، فإن الله تعالى يختم على قلوبهم، فلا يدخلها الإيمان، ولا يخرج منها الكفر، لأنهم أحبُّوه فزادهم منه كما زاد المؤمنين إيمانًا: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى } [محمد: 17].والهداية هنا بمعنى الدلالة على الخير، وسبق أنْ ضربنا لها مثلًا، ولله تعالى المثَل الأعلى: هَبْ أنك تسلك طريقًا لا تعرفه، فتوقفتَ عند جندي المرور وسألته عن وجهتك فدلَّكَ عليها، ووصف لك الطريق الموصِّل إليها. لَكِن، هل دلالته لك تُلزمك أنْ تسلك الطريق الذي وُصِف لك؟بالطبع أنت حُرٌّ تسير فيه أو في غيره. فإذا ما حفظتَ لرجل المرور جميلَهُ وشكرته عليه، ولمس هو فيك الخير، فإنه يُعينك بنفسه على عقبات الطريق، وربما ركب معك ليجتاز بك منطقة خطرة يخاف عليك منها. هذا معنى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17].أما لو تعالى تَ على هذا الرجل، أو اتهمته بعدم المعرفة بمسالك الطرق، فإنه يدعُكَ وشأنك، ويضِنُّ عليك بمجرد النصيحة.وهكذا.. الحق- سبحانه وتعالى- دَلَّ المؤمن ودَلَّ الكافر على الخير، المؤمن رضي بالله وقَبِل أمره ونَهْيه، وحمد الله على هذه النعمة، فزاده إيمانًا وأعانه على مشقة العبادة، وجعل له نورًا يسير على هَدْيه، أما الكافر فقد تركه يتخبّط في ظلمات كفره، ويتردد في متاهات العمى والضلال. اهـ.
|